أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

📁 آخر الأخبار

سرقة بنك بيروت الكبرى كيف تمّت وأسرار التحقيقات التي لا تزال غامضة

سرقة بنك بيروت الكبرى لغز محير في قلب الحرب الأهلية


في صباح 20 يناير 1976، وعندما كانت بيروت تغلي بفعل نار الحرب الأهلية اللبنانية، كانت هناك جريمة غير عادية تختمر في قلب هذه الفوضى. في الوقت الذي كانت فيه المدينة تعيش في ظل معارك شوارع عنيفة بين الفصائل المسلحة، وقع أحد أكبر وأجرأ السرقات البنكية في تاريخ لبنان، بل في تاريخ العالم العربي. سرقة بنك الشرق الأوسط البريطاني في بيروت كانت بمثابة ضربة قاصمة على الثقة في النظام المصرفي اللبناني، وظلت لغزًا محيرًا طيلة عقود من الزمن، مليئة بالغموض والتكهنات التي لم تنتهِ حتى اليوم.


التخطيط المسبق استغلال الفوضى والحرب


أحداث 1976 كانت فترة حساسة للغاية بالنسبة للبنان، حيث كانت الحرب الأهلية في ذروتها، وكان الخط الأخضر يفصل بين منطقتين مختلفتين تمامًا، حيث كان يشهد اشتباكات يومية بين الفصائل المسلحة المختلفة. في هذه الأجواء المشتعلة، اختارت العصابة توقيتًا مثاليًا لتنفيذ عملية السطو.


استغل اللصوص فوضى المعارك، حيث أطلقت قذائف هاون على جانبي الخط الأخضر لتخلق حالة من الذعر في المدينة. هذا الارتباك سمح لهم باختراق الميدان الأمني للبنك، متسللين في زي الميليشيات المسلحة. تكتيك الحرب هذا كان له تأثير كبير، حيث لم يكن هناك شك في أن معظم القوات الأمنية كانت مشغولة في التعامل مع الأوضاع العسكرية العاصفة، مما جعل من السهل على العصابة تنفيذ خطتهم.

العملية الاحترافية تجاوز الأمن وكسر الخزائن


ما جعل هذه السرقة مختلفة عن العديد من عمليات السطو الأخرى هو درجة الاحترافية العالية التي أظهرتها العصابة. لم يكن الأمر مجرد اقتحام عشوائي، بل كانت العملية مدروسة بشكل مدهش.


بدايةً، اقتحم اللصوص البنك خلال ساعات قليلة من الصباح، حيث كانت الحركة في المنطقة شبه معدومة بسبب الاشتباكات. تجاوزوا بسرعة الحواجز الأمنية الأساسية، مثل كاميرات المراقبة ونظام الإنذار، باستخدام تقنيات متطورة لفتح الخزائن. تشير التحقيقات إلى أن العصابة كانت تمتلك أدوات متخصصة للغاية لتفجير الخزائن أو فتحها باستخدام تقنيات متقدمة، كانت تُستخدم في عمليات سرقة متطورة. يُعتقد أن هذا جزء من خبراتهم في عمليات سابقة.

سرق اللصوص كمية ضخمة من الأموال، بالإضافة إلى الذهب والمجوهرات، التي كانت مخزنة في خزائن البنك. لكن التقديرات تشير أيضًا إلى أنهم قد حصلوا على بعض الوثائق السرية المتعلقة بالأعمال التجارية، بالإضافة إلى أموال لم تُذكر علنًا، مما يثير الشكوك حول أن السرقة كانت تخدم أهدافًا أخرى بخلاف النهب المالي.

النظريات حول الجناة: من هم؟


منذ لحظة وقوع الجريمة، غلفت هذه السرقة هالة من الغموض جعلت التحقيقات تتعثر بشكل مستمر. طُرحت العديد من النظريات حول هوية العصابة، ولا يزال البعض يعتقد أن الجناة لم يكونوا عصابة محلية عادية.

الميليشيات المسلحة: الدافع السياسي والتمويل العسكري

إحدى النظريات الشائعة تشير إلى أن إحدى الميليشيات المسلحة التي كانت تتقاتل في شوارع بيروت هي من نفذت العملية. في ظل الحرب الأهلية، كانت الميليشيات بحاجة إلى تمويل لشراء الأسلحة والذخائر، وبالتالي قد يكون السطو على بنك مهم بمثابة وسيلة لتمويل نشاطاتها العسكرية. لكن الفشل في الحصول على أدلة مادية لإثبات هذا التورط جعل من الصعب التوصل إلى استنتاج حاسم.

العصابات الإجرامية الدولية: اليد الخفية في السرقة


نظرية أخرى كانت تشير إلى تورط عصابات إجرامية دولية. في ذلك الوقت، كانت العصابات الإجرامية العالمية قد بدأت في التوسع عبر الحدود، واستغلوا الفوضى التي كانت تعيشها بيروت لإتمام سرقات معقدة مثل هذه. البعض يعتقد أن هذه العصابات لم تكن فقط تسعى للربح، بل كانت تستفيد أيضًا من معرفة متخصصة في عمليات السطو الكبرى.

المخابرات الأجنبية: مؤامرة في الظل


نظرية أخرى، وهي من أكثر النظريات إثارة للجدل، تشير إلى أن وكالة استخبارات أجنبية قد تكون متورطة في السرقة. هذه النظرية تدعي أن الهدف من السرقة كان الحصول على معلومات حساسة من داخل البنك، أو ربما استخدام الأموال المسروقة لزعزعة استقرار المنطقة. هذه الفرضية لم تكن مدعومة بأدلة قاطعة، لكنها استمرت في الانتشار بسبب التكهنات السياسية التي كانت تحيط بالمنطقة في ذلك الوقت.

التورط الداخلي: موظفو البنك و"الاختراق" الداخلي

أحد الاحتمالات الأخرى هي أن بعض موظفي البنك قد يكونوا قد ساعدوا في تسهيل عملية السطو. هؤلاء الأشخاص كانوا على دراية تامة بأنظمة الأمان في البنك وكانوا قادرين على تحديد الثغرات في الإجراءات الأمنية. هذه الفرضية لا تزال تثير الجدل، خاصة أن البنك كان يحظى بنظام أمني متقدم مقارنة بالبنوك الأخرى في ذلك الوقت.

التحقيقات: سلسلة من الإخفاقات والتعقيدات


بعد وقوع الحادثة، بدأت السلطات اللبنانية في تشكيل فرق متخصصة للتحقيق في السرقة، لكن التحقيقات كانت مليئة بالمعوقات. إحدى العقبات الرئيسية كانت التضارب في شهادات الشهود. كان هناك العديد من الأشخاص الذين زعموا أنهم رأوا اللصوص، لكن رواياتهم كانت متناقضة، سواء من حيث عدد اللصوص أو أوصافهم أو نوعية السيارات التي استخدموها.
علاوة على ذلك، كان هناك غموض في الأدلة المادية. رغم الجهود المكثفة التي بذلها المحققون، لم يتم العثور على أي بصمات أصابع أو أدلة حيوية (مثل الحمض النووي) تشير إلى هوية الجناة. بل كانت الأدلة المتاحة ضئيلة للغاية، مما جعل التحقيقات تصل إلى طريق مسدود.

وكان هناك أيضًا تدخلات سياسية في التحقيقات. في تلك الفترة، كانت القوى السياسية الكبيرة في لبنان متورطة بشكل مباشر أو غير مباشر في النشاطات المسلحة، مما جعل التحقيقات أكثر تعقيدًا. في بعض الحالات، كان يعتقد أن الأطراف السياسية كانت تحاول حماية بعض الأشخاص المتورطين، سواء كانوا من الميليشيات أو من موظفي البنك الذين قد يكون لهم دور في تسهيل الجريمة.

مصير الأموال: غسيل الأموال والتوزيع الغامض


من أكبر الأسئلة التي لا تزال بدون إجابة هو مصير الأموال المسروقة. أظهرت التحقيقات الأولية أن الأموال لم تُستخدم بشكل علني في تمويل الأنشطة العسكرية، بل كانت تخفى بطرق معقدة. أحد الاحتمالات هو أن العصابة قد استخدمت شبكات غسيل الأموال عبر الحدود لنقل الأموال إلى الخارج، ربما إلى دول غير مستقرة سياسياً، حيث تم غسل الأموال ودمجها في الاقتصاد الدولي.

كما يشير البعض إلى أن الأموال قد تكون قد تم استخدامها لتمويل عمليات إرهابية أو حتى تمويل صراعات أخرى في المنطقة، في إطار شبكة أكبر من الأنشطة الإجرامية.

إعادة فتح القضية: أدوات جديدة تكشف الخيوط القديمة


مع مرور الوقت، واستخدام تقنيات جديدة في مجال التحقيقات الجنائية مثل تحليل الحمض النووي والتحقيقات الرقمية، أصبح هناك أمل في إعادة فتح القضية بشكل أكثر فاعلية. المحققون قد يحصلون على فرصة جديدة لاكتشاف مزيد من الأدلة المخفية، سواء كانت في سجلات الكمبيوتر التي تم سرقتها من البنك أو في البصمات التي لم تُكتشف سابقًا.

خاتمة: القضية التي لم تُحل أبدًا


على الرغم من مرور أكثر من أربعة عقود على سرقة بنك بيروت الكبرى، لا تزال القضية واحدة من أعظم الألغاز في تاريخ الجريمة. التحقيقات كانت مليئة بالعقبات، والشهادات المتضاربة، والتدخلات السياسية، مما جعل من الصعب حل هذا اللغز. ومع ذلك، تظل هذه السرقة شاهدة على كيفية تأثير الفوضى والصراعات السياسية على النظام المصرفي، وكيف أن الجرائم الكبرى قد تُنفذ باستخدام أحدث التقنيات وأشد الاحترافية في فترات الأزمات.


Mostafa Zaki
Mostafa Zaki
تعليقات